مؤسسة "كارهي محمود درويش"(غسان زقطان)
قدم أربعة أئمة في مدينة "الطيبة" في مناطق الـ 48 مؤخراً، التماساً غريباً للمجلس البلدي يطالبون فيه، بحرقة وألم، تغيير اسم شارع "محمود درويش" في المدينة، مقترحين لتعزيز الالتماس عدة أسماء بديلة مثل: شارع مكة أو الأقصى أو المحبة...، نص الالتماس أو العريضة يبدو ركيكاً لدرجة مزرية فعلاً، ولعل هذه الركاكة اللغوية تفسر موقف "الأئمة" من منجز درويش ولغته وحضوره، الإسفاف امتد ليشمل معظم التعليقات المدافعة عن مطلب الشيوخ الأربعة، والمقدم، حسب أحد التعليقات "إلى هيئة معينة من قبل وزارة الداخلية الإسرائيلية وضمن عضويتها المدير السابق لحزب الليكود في المدينة".
في التعليقات يورد أحد المناصرين للشيوخ ما يعتبره وثيقة تثبت وجهة نظره/هم وهي ببساطة " اعتراف درويش للشاعر (اللبناني) سامر أبو هواش بأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي "!
بينما يقترح أحد المعلقين على الشيوخ "الاتفاق على توحيد الآذان أولاً "
ويطالبهم معلق بـ"محو اللافتات باللغة العبرية التي تغطي المدينة بدل محو اسم درويش
ويورد آخر جدولاً طويلاً جداً يثبت من خلاله "كفر" محمود درويش".
فيما يقترح آخر تغيير الأئمة والإبقاء على اسم الشاعر.
هذه الحملة التي يقودها أربعة شيوخ، لا يتقنون العربية، في مدينة فلسطينية داخل "إسرائيل" ليست معزولة عن حملات متواصلة يقودها ويغذّيها "مثقفون"، فلسطينيون وعرب في محاولات، يصعب فهمها، للتشهير بمنجز محمود درويش وحضوره وطنياً، بحيث تكتمل دائرة التشهير لتشمل تصنيف معتقده الديني، بما يلائم الواقع الجديد الذي أوجده الإسلام السياسي عبر تحالفه الغريب مع بقايا القومجيين في أسوأ حالاتهم.
في الجانب الآخر ليس ثمة مقياس لفهم علاقة بعض "المثقفين"، الفلسطينيين على وجه الخصوص، بمحمود درويش، أقصد تلك العلاقة المنسوجة من طرف واحد، والقائمة على البحث عن "أخطاء" و"زلات" الشاعر والسعي خلفها، وجمعها وتأليفها بدأب وسوء نية وجهل في احيان كثيرة، تماما مثل حملة صيد خارج القانون، بحيث يمكن سماع الصياح والركض والأقدام التي تكسر الأغصان في متاهة الغابة ومتابعة الأشباح التي تتعثر هناك.
لا أتحدث عن رأي نقدي أو قراءة مختلفة أو اقتراح نظري أو جمالي، هذا أمر وارد وضروري، ولكنني أتحدث عن "الكراهية"، الكراهية القادمة من فقر الموهبة، بالضبط من فقر الموهبة التي تشكل قاسماً مشتركاً لطراق هذا الدرب.
حاولت ذلك كثيراً دون جدوى، تكوين مقياس لهذه الظاهرة، وفي أكثر من مرة كان هناك حوار مع محمود نفسه بحضور أصدقاء مشتركين، زياد خداش عادة، لم تكن تلك الحوارات تتطرق إلى اسماء بعينها، رغم أنها، الأسماء، حاضرة ومعنية بتداولها، محمود كان يخفي الأسماء بخفة في كل مرة ما يمنح السؤال بعداً إنسانياً بعيداً عن فكرة الكراهية.
لعل هذا البحث الهادئ وابتعاده عن الدخول في جدل مع الظاهرة وأفكارها التي كان يمكن دحضها ببساطة متناهية، هو رغبة محمود درويش وقدرته على الإصغاء حيث تكمن موهبته الثانية، الإصغاء إلى الأصوات وتمييزها، الإصغاء لصوت الكتابة، كتابة الآخرين وقلقها، الإصغاء إلى الفكرة التي تكمن خلف العبارة وتدفعها من ظهرها إلى الضوء.
محمود الذي ابتعد بهدوء وعناد عن أي موقع من مواقع السلطة منذ نهاية الثمانينيات وتفرغ، بشكل كلي، للكتابة كان معنياً بأسباب خصومه، أو بمعنى أدق أولئك الذين قرروا أن يكونوا خصوماً، بالفلسطينيين على وجه الخصوص، لم يكن يعرفهم أو يعرف أسماءهم، كان يتجاهل تلك المعرفة بقصدية واضحة، ولا أظن أن اسماً واحداً قد علق بذاكرته وهو في طريقه من باريس إلى هيوستن.
بالنسبة له لم يكن الأمر يذهب إلى أي منطقة باستثناء محاولة فهم الظاهرة نفسها وتبريرها أيضاً.
حتى بعد رحيل الشاعر واصل كثيرون نبش التراب والاتكاء إلى حلقات النميمة والتقاط فتات تلك الموائد القابلة للطي، ومحاولة بناء رواية من أحاديث المارة والمسافرين والعبارات الطائشة، ثم الاستشهاد بها كنظريات منجزة وحقائق دامغة، رغم أن مساحة المعرفة، كما ندرك جميعا، لا تتجاوز الجملة المكررة.
يمكن، استثناء اسماء لشبان يبحثون عن الحضور بأي ثمن، وسيبدو تسلق اسم محمود ملائماً لمثل هذا الهدف. الأمر ليس الخلاف مع مشروع محمود درويش الشعري، أو الاقتراحات الفنية التي يطرحها هذا المشروع المترامي، ليس خلافاً حول قصيدة التفعيلة وشرعية قصيدة النثر، وهو خلاف خرج منه درويش مبكرا في الثمانينيات، على مستوى الجدل وعلى مستوى التعامل مع قصيدة النثر كفضاء ضروري لتحميل التفعيلة بمنجزات النثر، والذهاب أبعد وأعمق في مرحلته الناضجة التي امتدت من "لماذا تركت الحصان وحيداً" إلى قصائده الأخيرة، "لاعب النرد" بشكل خاص.
هناك ظاهرة يمكن تعريفها بـ "كارهي محمود"، وهي ظاهرة كانت موجودة دائماً خلال مسيرة الشاعر، وقد ضمت في صفوفها أسماء كبيرة إلى جانب سياسيين ونقاد يعتقدون أن درويش قد فتح باب نظريتهم وغادر المعسكر الذي جهدوا في بنائه وتحصين أبراجه وتسييجه بمقولات وقوالب بلاغية مضحكة، وشعراء شبان يرغبون في تكثير أنفسهم، وشعراء مجايليين يغلب عليهم الإحساس بفوات الوقت والحظ، ومتدينون يعززون إيمانهم بكراهية الشعر.
ثمة محطات يمكن تبينها هنا بدأت بمحاسبة درويش على مشاركته في مؤتمر الشبيبة العالمي ضمن وفد "راكاح" في نهاية الستينيات، نفس الأصوات التي لاحقته عندما غادر الأرض المحتلة و"راكاح"، واستبدل جوازه الإسرائيلي بجواز سفر مصري، نفس الأشخاص الذين شككوا في رفضه لاتفاقية أوسلو ثم حاسبوه على عودته إلى رام الله.
هذه الظاهرة التي لاحقته حياً وهي تلوح بشروط السياسي البائسة وتحاول إسقاطها على شعره، تلاحقه الآن ميتاً في محاولة للنيل من قيمة منجزه الإبداعي.
فيما بعد ستتم عملية سرقة متقنة لأجساد مبدعين راحلين آخرين والاستعانة بهم وتقويلهم ما لم يقولوه عندما كانوا بيننا، ووضعهم في مواجهة مع مشروع درويش.
النهش في محمود وإرثه هو جزء من تقليد غريب في المشهد الثقافي. واستخدام الموتى، بعد رحيلهم، هو تطوير لهذا التقليد.
قدم أربعة أئمة في مدينة "الطيبة" في مناطق الـ 48 مؤخراً، التماساً غريباً للمجلس البلدي يطالبون فيه، بحرقة وألم، تغيير اسم شارع "محمود درويش" في المدينة، مقترحين لتعزيز الالتماس عدة أسماء بديلة مثل: شارع مكة أو الأقصى أو المحبة...، نص الالتماس أو العريضة يبدو ركيكاً لدرجة مزرية فعلاً، ولعل هذه الركاكة اللغوية تفسر موقف "الأئمة" من منجز درويش ولغته وحضوره، الإسفاف امتد ليشمل معظم التعليقات المدافعة عن مطلب الشيوخ الأربعة، والمقدم، حسب أحد التعليقات "إلى هيئة معينة من قبل وزارة الداخلية الإسرائيلية وضمن عضويتها المدير السابق لحزب الليكود في المدينة".
في التعليقات يورد أحد المناصرين للشيوخ ما يعتبره وثيقة تثبت وجهة نظره/هم وهي ببساطة " اعتراف درويش للشاعر (اللبناني) سامر أبو هواش بأنه كان عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي "!
بينما يقترح أحد المعلقين على الشيوخ "الاتفاق على توحيد الآذان أولاً "
ويطالبهم معلق بـ"محو اللافتات باللغة العبرية التي تغطي المدينة بدل محو اسم درويش
ويورد آخر جدولاً طويلاً جداً يثبت من خلاله "كفر" محمود درويش".
فيما يقترح آخر تغيير الأئمة والإبقاء على اسم الشاعر.
هذه الحملة التي يقودها أربعة شيوخ، لا يتقنون العربية، في مدينة فلسطينية داخل "إسرائيل" ليست معزولة عن حملات متواصلة يقودها ويغذّيها "مثقفون"، فلسطينيون وعرب في محاولات، يصعب فهمها، للتشهير بمنجز محمود درويش وحضوره وطنياً، بحيث تكتمل دائرة التشهير لتشمل تصنيف معتقده الديني، بما يلائم الواقع الجديد الذي أوجده الإسلام السياسي عبر تحالفه الغريب مع بقايا القومجيين في أسوأ حالاتهم.
في الجانب الآخر ليس ثمة مقياس لفهم علاقة بعض "المثقفين"، الفلسطينيين على وجه الخصوص، بمحمود درويش، أقصد تلك العلاقة المنسوجة من طرف واحد، والقائمة على البحث عن "أخطاء" و"زلات" الشاعر والسعي خلفها، وجمعها وتأليفها بدأب وسوء نية وجهل في احيان كثيرة، تماما مثل حملة صيد خارج القانون، بحيث يمكن سماع الصياح والركض والأقدام التي تكسر الأغصان في متاهة الغابة ومتابعة الأشباح التي تتعثر هناك.
لا أتحدث عن رأي نقدي أو قراءة مختلفة أو اقتراح نظري أو جمالي، هذا أمر وارد وضروري، ولكنني أتحدث عن "الكراهية"، الكراهية القادمة من فقر الموهبة، بالضبط من فقر الموهبة التي تشكل قاسماً مشتركاً لطراق هذا الدرب.
حاولت ذلك كثيراً دون جدوى، تكوين مقياس لهذه الظاهرة، وفي أكثر من مرة كان هناك حوار مع محمود نفسه بحضور أصدقاء مشتركين، زياد خداش عادة، لم تكن تلك الحوارات تتطرق إلى اسماء بعينها، رغم أنها، الأسماء، حاضرة ومعنية بتداولها، محمود كان يخفي الأسماء بخفة في كل مرة ما يمنح السؤال بعداً إنسانياً بعيداً عن فكرة الكراهية.
لعل هذا البحث الهادئ وابتعاده عن الدخول في جدل مع الظاهرة وأفكارها التي كان يمكن دحضها ببساطة متناهية، هو رغبة محمود درويش وقدرته على الإصغاء حيث تكمن موهبته الثانية، الإصغاء إلى الأصوات وتمييزها، الإصغاء لصوت الكتابة، كتابة الآخرين وقلقها، الإصغاء إلى الفكرة التي تكمن خلف العبارة وتدفعها من ظهرها إلى الضوء.
محمود الذي ابتعد بهدوء وعناد عن أي موقع من مواقع السلطة منذ نهاية الثمانينيات وتفرغ، بشكل كلي، للكتابة كان معنياً بأسباب خصومه، أو بمعنى أدق أولئك الذين قرروا أن يكونوا خصوماً، بالفلسطينيين على وجه الخصوص، لم يكن يعرفهم أو يعرف أسماءهم، كان يتجاهل تلك المعرفة بقصدية واضحة، ولا أظن أن اسماً واحداً قد علق بذاكرته وهو في طريقه من باريس إلى هيوستن.
بالنسبة له لم يكن الأمر يذهب إلى أي منطقة باستثناء محاولة فهم الظاهرة نفسها وتبريرها أيضاً.
حتى بعد رحيل الشاعر واصل كثيرون نبش التراب والاتكاء إلى حلقات النميمة والتقاط فتات تلك الموائد القابلة للطي، ومحاولة بناء رواية من أحاديث المارة والمسافرين والعبارات الطائشة، ثم الاستشهاد بها كنظريات منجزة وحقائق دامغة، رغم أن مساحة المعرفة، كما ندرك جميعا، لا تتجاوز الجملة المكررة.
يمكن، استثناء اسماء لشبان يبحثون عن الحضور بأي ثمن، وسيبدو تسلق اسم محمود ملائماً لمثل هذا الهدف. الأمر ليس الخلاف مع مشروع محمود درويش الشعري، أو الاقتراحات الفنية التي يطرحها هذا المشروع المترامي، ليس خلافاً حول قصيدة التفعيلة وشرعية قصيدة النثر، وهو خلاف خرج منه درويش مبكرا في الثمانينيات، على مستوى الجدل وعلى مستوى التعامل مع قصيدة النثر كفضاء ضروري لتحميل التفعيلة بمنجزات النثر، والذهاب أبعد وأعمق في مرحلته الناضجة التي امتدت من "لماذا تركت الحصان وحيداً" إلى قصائده الأخيرة، "لاعب النرد" بشكل خاص.
هناك ظاهرة يمكن تعريفها بـ "كارهي محمود"، وهي ظاهرة كانت موجودة دائماً خلال مسيرة الشاعر، وقد ضمت في صفوفها أسماء كبيرة إلى جانب سياسيين ونقاد يعتقدون أن درويش قد فتح باب نظريتهم وغادر المعسكر الذي جهدوا في بنائه وتحصين أبراجه وتسييجه بمقولات وقوالب بلاغية مضحكة، وشعراء شبان يرغبون في تكثير أنفسهم، وشعراء مجايليين يغلب عليهم الإحساس بفوات الوقت والحظ، ومتدينون يعززون إيمانهم بكراهية الشعر.
ثمة محطات يمكن تبينها هنا بدأت بمحاسبة درويش على مشاركته في مؤتمر الشبيبة العالمي ضمن وفد "راكاح" في نهاية الستينيات، نفس الأصوات التي لاحقته عندما غادر الأرض المحتلة و"راكاح"، واستبدل جوازه الإسرائيلي بجواز سفر مصري، نفس الأشخاص الذين شككوا في رفضه لاتفاقية أوسلو ثم حاسبوه على عودته إلى رام الله.
هذه الظاهرة التي لاحقته حياً وهي تلوح بشروط السياسي البائسة وتحاول إسقاطها على شعره، تلاحقه الآن ميتاً في محاولة للنيل من قيمة منجزه الإبداعي.
فيما بعد ستتم عملية سرقة متقنة لأجساد مبدعين راحلين آخرين والاستعانة بهم وتقويلهم ما لم يقولوه عندما كانوا بيننا، ووضعهم في مواجهة مع مشروع درويش.
النهش في محمود وإرثه هو جزء من تقليد غريب في المشهد الثقافي. واستخدام الموتى، بعد رحيلهم، هو تطوير لهذا التقليد.
إرسال تعليق تعليقات المجلة تعليقات فيسبوك