منذُ سنوات تجاوزت العشرة وفي غفلةٍ من الزمن التائه الذي كنتُ أنتظرهُ على مضضٍ، تلقيتٌ إتصالاً هاتفياً غريباً وقعَ عليّ وقع الصاعقة، أخبرني صوتاً غريباً من الطرف الآخر، بأنهم قرروا قبول طلبي بالسفر، حاولتُ أن أملكَ أعصابي وأظهرتُ نفسي بمظهرِ القوي والواثق والسعيد أمام أهلي وأخوتي ووالدتي التي ناهزتْ الثمانينَ عاماً من العمرِ وأنا أنزفُ دماً من داخلي، لانني كنتُ أعيش حالة نفسية صعبة جداً! أي جحوداَ هذا أن يترك الأبن والدتهِ رغم حاجتها الماسة لوجوده بجانبها هذا على الرغم من وجود أخوتي.
جهزتُ حقائبي وجمعتُ ذكرياتي وعلقتها بأطرافي على عجلِ، بعد أن رتبتُ أموري كمحامٍ مارسَ المهنةَ لأكثر من أربعةَ عشرَ عاماً وتخرجَ من مكتبهِ محامين تجاوزوا الأربعة.
دقت صاعةُ الصفر وأقتربت ساعةُ السفر، ودعتُ أهلي وأحبتي ووالدتي المتألمة على فراقِ فلذةِ كبدها إلى الأبد. رافقني أخي الأكبرَ مني سناً رحمه الله في رحلتي الطويلة. مرّ الباص أمام شارعنا فانهمرتْ دموعي كالمطر ,اجهشتُ بالبكاء بصوتِ عالٍ وقد سمعَ بكائي كل المسافرين، سارتْ بينا الرحلة بإتجاه العاصمة فابتلعتنا المسافات لإنها ستكون محطتي الأخيرة في أرض الوطن، مرت أمامي سنينَ حياتي كشريطٍ سينمائيِ، طفولتي, شبابي, شقائي و فرحتي، مقاعد الدراسة، أساتذتي، رفاقي، أصدقائي، ألعابي، اهلي، أقاربي، عملي و مهنتي و شقاء عمري، أحباتي فوالدتي.
صعدنا الطائرة والآلام تعصرني والذكريات تؤرقني و ضميري يأنبني، صعدتُ الطائرة والدموع لم تفارقني، جرحتني في الصميم وأدمتْ مقلتيّ ونزفَ قلبي من هول الأنين.
حلقتْ طائرتنا فوق المحيطات، فتساقطت البعض من ذكرياتي الحزينة التي أبتْ ان ترافقني إلى المجهول وهي تنتحر بملئ إرادتها بعد أن منعتها من البقاء بين دروبي ضيعتنا ومع فراشات الحقول وألعاب طفولتي المهملة.
حطّ بنا الرحال في مدينةِ الأحلام، أضواء وصخب وأحلام وردية زاهية الألوان، ضاع ما تبقى من أحلامي بين ترهات الطرق الحزينة ودروب المال الضائعة و بين ألوان الحرية المزيفة والمستقبل الخلبي الزائف.
هاجرت الأحبة والغوالي إلى الأبد دون أن يودعني أحدً منهم لإنني كنتُ ناكراً للجميل في الوقتِ الذي كانوا فيه بإمس الحاجةِ إلي ّ، فتركوا في قلبي حسرةِ أبدية لا يستطيع الزمن أن يمحوها أبدأ، ضاعت ذكرياتي التي بعثرتها بين ترهات السفر و بين أضواء المدينة المزيفة و بين ثنايا الحرية الخلبية و المال الزائل.
مرتْ السنون، تكالبوا على وطني، قتلوا أهلي، شردوا شعبي وطعنوا الوطن و نثروا مع الرياح ما تبقى من ذكرياتي.
إنتقلَ الأولون الى الحياة الأبدية، نزف الوطن وغرق في البحر الباقون، صرختْ عذراء، بكتْ ثكلى وأنتحرت محصنة فهاجرتْ مع ذكرياتي أحلام أطفال بلادي إلى عالم المجهول! ضاعوا وضعنا و ضاع الوطن وعاش الغرب الداعية إلى الحرية القاتلة والمنحدر إلى عالم السخرية و المجون، تاهت ذكرياتي ولا زالَ ينزف قلبي المطعون وسوف ينزف إلى آخر لحظات العمر! عاشَ العرب الخائن وعاشَ الغرب المجنون.
نقطة يا أحبتي ولنبدأ من أول السطر.
إرسال تعليق تعليقات المجلة تعليقات فيسبوك