تأهبت الشمس للرّحيل، وشرعت في لملمة تلابيب ثوبها النحاسي ،إيذانا بنهاية نهارٍ يشبه ماسبقه وإعلانا لبداية ليلةٍ قد تختلف عما سلف..
في أسفل عمارةٍ مهجورةٍ تقعدُ عجوزٌ فوق ورق مقوّى في عقدها السادس،ترتدي أسمالا بالية وتضع بجانبها حذاءها القديم المرتق،ترفع رأسها إلى السماء،تنفرجُ شفتاها الشاحبتين قليلا لتمتم بكلمات لا يسمعها سواها،ثم تُخْفضُ رأسها ثانية،،تتسمّرُ نظراتها على الطريق، تراقب الراكبين والراجلين على حدّ سواء،خلف تلك الملامح الجامدة لوجهها الذي لا يزال يحتفظ ببعضٍ من حسنه،يقبعُ بركان مضطرب،حممه تتدفق وتغلي فلا تجد لها منفذا فتعود للغوص في أعماقها،تجول صورٌ متداخلةٌ وتصول في رأسها المغطى بمنديل كبير منعقد أسفل جيدها،ثم تتهاوى في فراغ لامتناه،، سكونها بدا غريبا،حتى أنه يخيل إلى المارّ من جانبها أنها تمثال قديم لبطل غير معروف..
لطالما رقّ بعض المارة لحالها ورموا قطعا نقدية في حجرها،كأنهم يرمونها في بئر عميقة لا قرار لها،لم تكن تدعو لأحد ولا تستجدِي عطف أحد،فقط تجلس بلا حراك هناك لساعات وساعات..
لم يفلح أي صوتٍ من أصواتِ المدينة الصغيرة في بعثرةِ سكونها،،حتى صوت الأقدام التي ترتدي كعبا عاليا وتتجه نحوها،توقفت شابة جميلة تلهثُ من فرط التعب،جلست القرفصاء وخاطبتها بانفعال:
_سيدتي،سيدتي!
لم تحرك العجوز ساكنا،تابعت الشابة باصرار:
_انظري إليّ،أنا هي..وأشارت إلى الشارع المواجه لها وتابعت :
_هناك في ذلك اليوم منذ شهر..زلّت قدمي وكدت أسقط ومددتِ لي يدك وأمسكتِ بي بقوة..
لم تتغير ملامح العجوز لكنها أطبقت على عينيها بأهدابها القصيرة التي خالطها الشيب،وتراءت لها صورة تلك الشابة الحسناء في ذلك اليوم وهي تنزع يدها باشمئزاز بعدما انتبهتْ إلى ملابسها الرثة..
تابعت الشابة:
_وحين استطعتُ الوقوف قلتِ لي شيئا بدا لي غريبا، مافتئ يلحُّ عليّ باستمرار،لكني فهمتُ مغزى كلامك بعد ذلك،واستطعت فكّ طلاسمه..
"احذري العنكبوت الحمراء وإلا سيكون سقوطك مدويا ولا نهوض بعده"..
جالت تلك العبارة في خاطر العجوز،لكنها لم تنبس بكلمة..
امتدت يد الشابة تجذب برفق اليد المغضنة النافرة عروقها وتمسح على ملمسها الخشن بلطف قائلة:
_أنا مدينة لكِ سيدتي،كلامك قضّ مضجعي وجعلني أطلب أجازة من عملي ولاحظتُ أشياء غريبة،همساتٌ حذرة لزوجي في الهاتف،راودتني شكوك..فضيّقتُ عليه الخناق،وصار يلازم البيت في تجهم،ثم جاءت تستفسر عن حالنا،كانت ترتدي رداء رماديا تلمع وسطه أزرار حمراء كبيرة،شكلها ملفتٌ،مالت عيني إلى جانبها،حقيبتها كذلك كانت حمراء،وسيارتها حمراء،لا ينفكُّ اللون الأحمر يصاحبها حتى لو كان مجرد قلم،تنهدت بحزن واستطردت:
_كانت صديقتي وجارتي السفلية هي العنكبوت الحمراء،استطعت بقليل من الجهد معرفة نواياها الخبيثة ،وببعض البرود والجفاء ابعادها..
كان الشارع خاليا إلا من بعض المارة الذين يحملقون مبهورين بمنظر الشابة الجميلة وهي تمسك يد العجوز بحنان،ثم يمضون إلى حال سبيلهم وأسئلة تطوف في فكرهم كثعبان ضخمٍ يعتصر فأرا فلا ينجح في خنقه..
زفرت الشابة زفرة حارة ضيقا بصمت العجوز المطبق،تأملتها بحيرة ،ودّتْ لو استطاعت النفاذ إلى عقلها لعلها تلمّ ببعض الأسرار..
هتفت فجأة:
_هل أنتِ عرّافةٌ أو ماشابه؟
نزعت العجوز يدها من بين يدي الشابة بغضب ونظرت إلى السماء.وعادت تراقب الطريق في صمت وثبات،جلستها تلك في ذلك الشارع الرئيسي من المدينة مكنّتها من رؤية الناس وأقنعتهم المتباينة،فهي تراهم في ذهابهم وإيابهم،برفقة أهلهم أو برفقة الغرباء،وأدركت عن حياتهم الكثير...
تراجعت الشابة وقالت بلطف:
_حسنٌ،سامحيني،فقط أريد أن أعرف،لماذا حذرتني في ذلك اليوم؟
ردت بشرود :
_لأنك تشبهينها..
تململت العجوز قليلا وأخرجت من ثيابها صورة صغيرة عليها خطوط بيضاء متعرجة بفعل القدم،تناولتها الأنامل البيضاء الرقيقة بلهفة وتلقفتها العيون الدعجاء باهتمام،رفعت رأسها تحدق مليا في وجه العجوز المحفور بأخاديد زمن قاسٍ ،وعادت تتأمل الصورة مرّة أخرى ثم سألتها بحيرة:
_أليست هذه المرأة الجميلة أنتِ؟
أطرقت العجوز برأسها أرضا وقالت بصوت متحشرج:
_لا،لست أنا هي،تلك كانت كائنا سعيدا،يحلق عاليا في سماء الهناء والصفاء بأجنحة من حرير..
أشرق وجه الشابة فرحا حين سمعت العجوز تسترسل في الحديث وهتفت بحماس:
_نعم،نعم، وبعد..؟
سعلت العجوز وقالت بصوت مشروخ:
_لاشيء،فقط هوت في قاع سحيق ،،خيانة زلزلت كيانها،وجعلت منها شيئا آخر غير الذي كانت عليه،صارت مجرد شبح كئيب يطوف المدينة بغير هدى..
تراجعت الشابة إلى الوراء وقالت بأسف:
_يا إلهي،تخلى عنكِ وطلقك
قاطعتها العجوز باصرار:
_الجرذ لم يطلقها،لكنه أردى القلب المعتوه قتيلا وسرق الجبن والجحر وكل شيء ،وأهداهم للعنكبوت السوداء..
عضت السيدة الجميلة على شفتها أسفا وقالت:
_والآن أتعيشين وحدك؟
لاحت ابتسامة مريرة على الشفتين الباهتتين وقالت:
_لقد عاد الجرذ بعد سنوات طويلة بساق مبتورة،طردته العنكبوت وعناكبها الفتيّة حين ألزمه المرض الفراش،ليعود إلى ضحيته القديمة ويزاحمها في جحر أعلى السطح..
همّت الشابة بالوقوف وقالت بحزن:
_يا إلهي كم تعذبتِ..!
انتفضت العجوز بشدة ووقفت تنتعل حذاءها على عجل وصرخت بعصبية:
_هي تعذّبٓتْ ولستُ أنا،ألا تفهمين ؟ لقد لاقت ما تستحقه،مجنون من يُقْبِلُ على الدنيا بقلبٍ نقيّ ونيةٍ سليمةٍ،بعض السوادِ ينفع،وبعض الشكّ يفتحُ الأعين المغلقة..
أصلحتْ هندامها وأحكمتْ رباط وشاحها وانصرفتْ لا تلوي على شيء.أسرَعٓتْ الشابة تفتحُ حقيبتها ونادت العجوز:
_سيدتي توقفي،خذي..
التفتتِ العجوزُ وحدّقتْ في الأوراق النقدية وقالت بضيق:
_درهمْ،أريد فقط درهما،المالُ الكثيرُ يفسد القلوب..
وتابعت طريقها..عقدت الدهشة لسان السيدة الصغيرة وراقبتها وهي تنعطف إلى اليسار..ركضت خلفها ويدها تغوص في الحقيبة،أخيرا لمست قرصا معدنيا..تنهدّتْ بارتياح وهي تمسك بكتفها لاهثة:
_تفضلي..لقد وجدت الدرهم..!
وضعته في كفّ العجوز التي أحكمت قبضتها عليه وسرعان ما توارت في جنح الظلام بين السيارات.
انبعث صوت رجل فجأة:
_هل من خطب سيدتي ؟
نظرت بحدة وخوف إلى حارس السيارات الذي ظهر أمامها بشكل مباغت ،أجابته بارتباك:
_لا ..لاشيء
ابتسم الرجل وقال:
_أدركُ سيدتي أن الصدقةَ يجب أن تكون مستورة،لكني لا أفهم لماذا تطاردين العجوز البكماء لأجل درهم!
أجابته بغضب:
_أنت لا تفهم شيئا، وأنا ليس لدي وقت للشرح!
انصرف الحارس بخطوات بطيئة وقال بصوت مرتفع:
_يقال أنها كانت ابنة أحد أغنياء المدينة،،ربما جار عليها الزمن كما جار علينا..أقدار يا دنيا!
تَردّدَ صدى كلماته داخلها وهي تعبر الطريق بخطوات وجلة،،وأفكار جمة تعربد في عقلها،،وشعور بالكآبة يسيطر عليها وهي تردّدُ جملة العجوز:
_لستُ أنا هي ..! وفكّرَتْ نعم أنا لم أعد كما كنتُ منذ ساعة،أنا لست هي،،ولن أكون هي،،القليل من الشكّ والحرصِ لن يضرّني بل سيجعلني أمسك بزمام حياتي، ولن أكون مجرد طيفٍ كئيبٍ تائهٍ !
حنين فيروز6/08/2015
إرسال تعليق تعليقات المجلة تعليقات فيسبوك